فصل: تفسير الآيات (108- 112):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (108- 112):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [108- 112].
{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي: ما يوحى إليَّ، إلاّ استئثاره تعالى بالوحدانية في الألوهية. ومعنى القصر على ذلك، أنه الأصل الأصيل، وما عداه راجع إليه في جنبه. فهو قصر دعائي: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي: منقادون لما يوحى من التوحيد، مستسلمون له: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: عن التوحيد: {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} أي: أعلمتكُمْ وهديتكم على كلمة سواء بيننا وبينكم، نؤمن بها ونجني ثمرات سعادتها في الدارين. أو المعنى دللتكم على صراط مستقيم، وبلغتكم الأمر به. فإن آمنتم به فقد سعدتم، وإلا فإن وعد الجاحدين آتيكم، وليس بمصروف عنكم. وإن كنت لا أدري متى يكون ذلك، لأن الله تعالى لم يعلمني علمه، ولم يطلعني عليه كما قال: {وَإِنْ أَدْرِي} أي: وما أدري: {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} أي: من الفتح عليكم، وإيراث أرضكم غيركم، ولحوق الذل والصغار بعصيانكم: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} أي: فسيجزيكم على ذلك: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} أي: وما أدري لعل تأخير جزائكم استدراج لكم، وزيادة في افتتانكم، أو ابتلاء لينظر كيف تعملون. فالفتنة إما مجاز عن الاستدراج بذكر السبب وإرادة المسبب، أو هو بمعناه الأصليّ. فهو استعارة مصرحة. وقول تعالى: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أي: تمتيع لكم إلى أجل مقدور. والتمتيع بمعنى الإبقاء والتأخير: {قَالَ} وقرئ: {قُل رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أي: افصل بيننا وبينهم بالحق. وذلك بنصر من آمن بما أنزلت، على من كفر به، كقوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89]، {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أي: من الكذب والافتراء على الله ورسوله. بنصر أوليائه، وقهر أعدائه. وقد أجاب سبحانه دعوته، وأظهر كلمته، فله الحمد في الأولى والآخرة، إنه حميد مجيد.
قال الرازي: قال القاضي: إنما ختم الله هذه السورة بقوله: {قُلْ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} لأنه عليه السلام كان قد بلغ في البيان لهم الغاية، وبلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه. فكان قصارى أمره تعالى بذلك تسليةً له وتعريفاً أن المقصود مصلحتهم. فإذا أبوا إلا التمادي في كفرهم، فعليك بالانقطاع إلى ربك، ليحكم بينك وبينهم بالحق. إما بتعجيل العقاب بالجهاد أو بغيره. وإما بتأخير ذلك. فإن أمرهم، وإن تأخر فما هو كائن قريب. وما روي أنه عليه السلام كان يقول ذلك في حروبه، كالدلالة على أنه تعالى أمره أن يقول هذا القول، كالاستعجال للأمر بمجاهدتهم. وبالله التوفيق.

.سورة الحج:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [1].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} يأمر تعالى عباده بِتَقْوَاهُ التي هي من جوامع الكلم، في فعل المأمورات واجتناب المنهيات.
قال المهايمي: أي: احفظوا تربيته عليكم، بصرف نعمه إلى ما خلقها لأجله، لئلا تقعوا في الكفران الموجب لانقلاب التربية عليكم، بالانتقام منكم. انتهى.
أي فالتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية والتربية، مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين، لتأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال به ترغيباً وترهيباً. أي: احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم، وقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} تعليل لموجب الأمر، بذكر بعض عقوباته الهائلة. فإن ملاحظة عظمها وهولها، وفظاعة ما هي من مبادئه ومقدماته، من الأحوال والأهوال، التي لا ملجأ منها سوى التدرع بلباس التقوى، مما يوجب مزيد الاعتناء بملابسته وملازمته لا محالة. والزلزلة التحريك الشديد والإزعاج العنيف، بطريق التكرير بحيث يزيل الأشياء من مقارّها ويخرجها عن مراكزها. وإضافتُها للساعة، من إضافة المصدر إلى فاعله مجازاً، كأنها هي التي تزلزل. أو إلى ظرفه، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1]، وفي التعبير عنها بالشيء، إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها، والعبارة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام. أفاده أبو السعود.
وقد وصف عظمها في كثير من السور والآيات. كسورة التكوير وسورة الانفطار وسورة الانشقاق وسورة الزلزال وغيرها. وقد أشير إلى شيء من بليغ هولها بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (2):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [2].
{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي: عن إرضاعها. أو عن الذي أرضعته وهو الطفل: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} أي: ما في بطنها لغير تمام: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} أي: كأنهم سكارى: {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} أي: على التحقيق: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} أي: ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله، هو الذي أذهب عقولهم، وطيّر تمييزهم، وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه. قاله الزمخشريّ.
لطيفة:
قال الناصر في الانتصاف: العلماءُ يقولون: إن من أدلة المجاز صدق نقيضه، كقولك: زيد حمار، إذا وصفته بالبلادة. ثم يصدق أن تقول: ومَا هُو بحمار، فتنفي عنه الحقيقة. فكذلك الآية. بعد أن أثبت السكر المجازيّ نفي الحقيقيّ أبلغ نفي مؤكّد بالباء. والسر في تأييده التنبيه على أن هذا السكر الذي هو بهم في تلك الحالة، ليس من المعهود في شيء، وإنما هو أمر لهم يعهدوا قبله مثله. والاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} راجع إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} كأنه تعليل لإثبات السكر المجازيّ. كأنه قيل إذا لم يكونوا سكارى من الخمر، وهو السكر المعهود، فما هذا السكر الغريب وما سببه؟ فقال: سببه شدة عذاب الله تعالى. انتهى.
ثم أشير لحال المنكرين للساعة، بقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (3):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [3].
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: يخاصم في شأنه تعالى بغير علم. فيزعم أنه غير قادر على إحياء من قد بلي وصار تراباً، ونحو ذلك من الأباطيل: {وَيَتَّبِعُ} أي: في جداله: {كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} أي: عات متمرد. كرؤساء الكفر الصادّين عن الحق. ثم أشار لوصف آخر لهذا الشيطان المتبع، بقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (4):

القول في تأويل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [4].
{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} أي: قضى على الشيطان أنه يضل من تولاه بأن اتخذه ولياً، وتبعه، ولا يهديه إلى الحق، بل يسوقه إلى عذاب جهنم الموقدة. وسوقُه إياه إليه، بدعائه إلى طاعته ومعصية الرحمن.
تنبيه:
قيل: نزلت الآية في النضر بن الحارث، وكان جدِلاً.
قال الزمخشريّ: وهي عامة في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز، من الصفات والأفعال. ولا يرجع إلى علم، ولا يعض فيه بضرس قاطع. وليس فيه اتباع للبرهان ولا نزول على النصفة فهو يخبط خبط عشواء، غير فارق بين الحق والباطل. انتهى. ثم بين تعالى الحجة القاطعة لما يجادلون فيه، بقوله:

.تفسير الآية رقم (5):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [5].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} أي: من إمكانه وكونه مقدوراً له تعالى. أو من وقوعه: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أي: خلقنا أول آبائكم، أو أول موادّكم، وهو المنيّ، من تراب. إذ خلق من أغذية متولدة منه. وغاية أمر البعث أنه خلق من التراب: {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أي: تولدت من الأغذية الترابية: {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} أي: قطعة من الدم جامدة: {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} أي: قطعة من اللحم بقدر ما يمضغ: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} أي مصورة وغير مصورة والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولاً قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء. ثم ظهرت بعد ذلك شيئاً فشيئاً: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} أي: بهذا التدريج، قدرتنا وحكمتنا، وأن ما قَبِلَ التغير والفساد والتكوّن مرة، قَبِلَهَا أخرى. وأن من قدر على تغييره وتصويره أولاً، قدر على ذلك ثانياً {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} وهو وقت الوضع.
قال أبو السعود: استئناف مسوق لبيان حالهم، بعد تمام خلقهم. وعدم نظم هذا وما عطف عليه في سلك الخلق المعلل بالتبيين، مع كونهما من متمماته، ومن مبادئ التبيين أيضاً. لما أن دلالة الأول على كمال قدرته تعالى على جميع المقدورات، التي من جملتها البعث المبحوث عنه، أجلى وأظهر. أي: ونحن نقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء أن نقره فيها إلى أجل مسمى.
{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} أي: كمال قوتكم وعقلكم. قال أبو السعود علة لـ: {نُخْرِجُكُمْ} معطوفة على علة أخرى مناصبة لها. كأنه قيل: ثم نخرجكم لتكبروا شيئاً فشيئاً. ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والتمييز: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} أي: بعد بلوغ الأشد أو قبله: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} وهو الهرم والخرف. والأرذل الأردأ: {لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} أي: من بعد علم كثير، شيئاً من الأشياء، أو شيئاً من العلم، مبالغة في انتقاص علمه وانتكاس حاله واللام لام العاقبة.
قال البيضاويّ: والآية- يعني: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ} الخ- استدلال ثان على إمكان البعث، بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة. فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره.
ثم أشار تعالى إلى حجة أخرى على صحة البعث، بقوله: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} أي: ميتة يابسة: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ} أي: المطر: {اهْتَزَّتْ} أي: تحركت بالنبات: {وَرَبَتْ} أي: انتفخت وعلت، لما يتداخلها من الماء ويعلو من نباتها: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} أي: صنف: {بَهِيجٍ} أي: حسن رائق يسر ناظره وهذه الحجة الثالثة، لظهورها وكونها مشاهدة معاينة، يكررها الله تعالى في كتابه الكريم.

.تفسير الآيات (6- 7):

القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [6- 7].
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي: ذلك الذي ذكر من خلق الإنسان على أطوار مختلفة، وتصريفه في أحوال متباينة، وإحياء الأرض بعد موتها، حاصل بسبب أن الله هو الحق وحده في ذاته وصفاته وأفعاله. المحقق لما سواه من الأشياء، فهي من آثار ألوهيته وشؤونه الذاتية وحده، وما سواه مما يبعد باطل، لا يقدر على شيء من ذلك: {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} أي: يقدر على إحيائها، إذ أحيى النطفة والأرض الميتة: {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإن القدرة التي جعل بها هذه الأشياء العجيبة، لا يمتنع عليها شيء: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} أي: لاقتضاء الحكمة إياها. فهي في وضوح دلائلها التكوينية، بحيث ليس فيها مظنة أن يرتاب في إتيانها: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي: من الأموات، أحياء إلى موقف الحساب.

.تفسير الآيات (8- 10):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [8- 10].
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} أي: يجادل في شأنه تعالى من غير تمسك بعلم ضروريّ ولا باستدلال ونظر صحيح، يهدي إلى المعرفة. ولا بوحي مظهر للحق. أي: بل بمجرد الرأي والهوى، وهذه الآية في حال الدعاة إلى الضلال من رؤوس الكفر المقلدين- بفتح اللام- كما أن ما قبلها في حال الضُّلّال الجهال المقلدين- بكسر اللام- فلا تكرار أو أنهما في الدعاة المضلين واعتبر تغاير أوصافهم فيها، فلا تكرار أيضاً.
قال في الكشف: والأول أظهر وأوفق بالمقام. وكذا اختاره أبو مسلم فيما نقله عنه الرازيّ، ثم قال: فإن قيل كيف يصح ما قلتم، والمقلد لا يكون مجادلاً؟ قلنا: قد يجادل تصويباً لتقليده وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها، وإن كان معتمده الأصليّ هو التقليد.
وقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} حال من فاعل يجادل أي: عاطفاً لجانبه إعراضاً واستكباراً عن الحق، إذا دعي إليه.
قال الزمخشريّ: ثنى العطف عبارة عن الكبر والخيلاء. كتصعير الخدّ وليّ الجيد. وقوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: ليصد عن دينه وشَرعه، متعلق بيجادل علة له: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي: إهانة ومذلة، كما أصابه يوم بدر من الصغار والفشل: {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي: النار المحرقة: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} على الالتفات، أو إرادة القول. أي: يقال له يوم القيامة: ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والضلال والإضلال. وإسنادُه إلى يديه، لما أن الاكتساب عادة يكون بالأيدي {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أي: بل هو العدل في معاقبة الفجار، وإثابة الصالحين.

.تفسير الآية رقم (11):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [11].
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} شروع في حال المذبذبين، إثر بيان حال المهاجرين. أي: ومنهم من يعبده تعالى على طرف من الدين، لا في وسطه وقلبه. وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم، لا على سكون وطمأنينة. كالذي ينحرف إلى طرف الجيش. فإن أحسّ بظفر وغنيمة قرّ وإِلّا فَرَّ: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} أي: دنيويّ من صحة وسعة: {اطْمَأَنَّ بِهِ} أي: ثبت على ما كان عليه ظاهراً: {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي: ما يفتتن به من مكروه ينزل به: {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} أي: رجع إلى ما كان عليه من الكفر: {خَسِرَ} أي: بهذا الانقلاب: {الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} أي: ضيّعهما بذهاب عصمته، وحبوط عمله، بالارتداد: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أي: الواضح الذي لا يخفى على ذي بصيرة.
تنبيه:
قال ابن جرير: يعني جل ذكره بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ} إلخ أعراباً كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهاجرين من باديتهم. فإن نالوا رخاء، من عيش بعد الهجرة، والدخول في الإسلام، أقاموا على الإسلام. وإلا ارتدوا على أعقابهم. وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل. ثم أسنده من طرق.
وهذا مما يؤيد أن السورة مدنية كما قاله جمع. وتقدم ذلك. وقوله تعالى: